اقتصاد

روسيا تعطي أوروبا درساً في القانون الدولي وتستغل ثغرة عميقة كـ«الجودو»

سرقة الأصول الروسية المجمدة

تجمّد الغرب نحو 300 مليار دولار من أصول البنك المركزي الروسي، من بينها 245 مليار دولار جمدها الاتحاد الأوروبي، ثم صودرت ممتلكات رجال أعمال روس وأُمِّمت مؤسسات، في خطوة كان من المفترض أن تضرب الاقتصاد الروسي وتغير النظام وفق تفسير أوروبا حينها.

ظلّت الأصول مجمدة لسنتين مع مطالب روسية بالإفراج عنها ورفض أوروبي، حتى قرر القادة الأوروبيون في نوفمبر 2024 البدء بإجراءات مصادرة الأصول المجمدة وليس تجميدها فحسب، وهو التحول الذي أثار جدلاً قانونياً واسعاً.

أعلن القادة الأوروبيون حينها عن إنشاء صندوق لتعويض أوكرانيا عن العدوان الروسي، مستندين إلى مبادئ من القانون الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، وهو مشروع كان مثاراً للنقاش القانوني لأن التعويضات فرضية وليست مفروضة بنص اتفاقي ملزم أو حكم دولي واضح.

قام فريق قانوني روسي من أفضل خبراء العالم بإعداد دعاوى أمام 14 محكمة في ثلاث قارات، وجمّعوا 847 صفحة من المستندات التي تؤكد حق روسيا في الإفراج عن أصولها والتعويض عن الحصار غير القانوني للشركات والأفراد.

انطلق الدفاع الروسي من مبادئ ثلاثة: أن المصادرة تنتهك الحصانة السيادية وتخرق القانون الدولي الذي يحمي أصول البنك المركزي كأداة للسياسة النقدية، وأن آليات التعويض لا تستند إلى اتفاقية سلام أو حكم دولي ملزم أو موافقة طوعية، وأن المصادرة تتجاوز الإطار القانوني للاتحاد الأوروبي نفسه الذي يحمي عادة الممتلكات السيادية.

أشار المحامون الروس إلى أن المصادرة قائمة على تفسير سياسي للقانون، وأن هناك ثغرات في إطار الاتحاد الأوروبي نفسه تتيح استخدام مصطلحات مثل التعويض في ظل غياب اتفاقات ملزمة، وهو ما استند إليه الدفاع لإثبات وجود مبدأ الحصانة السيادية للأصول المصونة.

كما فحص الفريق القانوني الروسي أوراقاً من مناقشات داخلية في الاتحاد الأوروبي أظهرت خلافاً بين الأعضاء حول شرعية المصادرة، ما أثار قلق أوروبا بشأن حجم المعلومات ومدى تأثيرها على الموقف القانوني العام.

واجهت روسيا والدول الأوروبية سلسلة إجراءات قضائية في 14 محكمة عبر ثلاث قارات، ما فرض على أوروبا أن تواجه إجراءات متخالفة قوانيناً وتوقيتاً، وتكاليف تقاضية بمئات الملايين من اليوروهات، إضافة إلى أحكام قد تكون متناقضة وتضع في النهاية أوروبا أمام خيار التوصل إلى تسويات أو الاستمرار في معارك قانونية طويلة الأمد.

في الأيام الأولى، أصدرت محكمة سويسرية تجارية حكماً ابتدائياً بإيقاف بعض إجراءات المصادرة الأوروبية، وهو إجراء أثر جزئياً على قدرة أوروبا على استخدامها في إعادة الإعمار، فيما بقيت المسألة مفتوحة في منظومة اتحادية وتداعياتها المالية.

ارتبطت القضايا الاستثمارية بعقود ثنائية مع دول أوروبية تحمي الاستثمارات الأجنبية من المصادرة بدون تعويض، فادعى الجانب الروسي أن المصادرة تنتهك هذه العقود، بينما ذهب الأوروبيون إلى تعريف الاستثمار ليشمل أيضاً الأصول السيادية ضمن إطارهم القانوني، وهو ما كشف عن تناقضات في مواقف الاتحاد الأوروبي السابقة مع حالته الراهنة.

أثّرت المصادرة على الأسواق المالية في أوروبا، حيث ارتفعت عوائد السندات وتراجع اليورو وارتفعت تكاليف الاقتراض الحكومية، فيما بدأت المؤسسات المالية الأوروبية في إعادة تقييم مخاطرها وتوجيه استثماراتها بعيداً عن الأصول المعرضة لهذه القرائن القانونية والسياسية، وهو ما زاد من توتر العلاقات الداخلية في الاتحاد الأوروبي وتنامي نقاشات بشأن التسوية المحتملة والحصانة السيادية في إطار المعالجات المستقبلية.

لم تكن التداعيات السياسية أقل حدة، فشهدت أوروبا الشرقية صراعاً داخلياً حول الاستراتيجية، وتراجعت «وحدة» الاتحاد أمام الضغوط القانونية والاقتصادية، وظهرت دعوات إلى التسوية مقابل قبول روسيا بتعويضات محدودة أو إعادة أصول مرتبطة بمشروعات دولية تحت إشراف روسي، وهو ما اعتبره بعض القادة خياراً أكثر جدوى من صراع قانوني طويل المتاهة.

هل توافق روسيا على استخدام الغرب لأصولها المجمدة لإعادة إعمار أوكرانيا؟

تُبنى الدفاعات الروسية على أن المصادرة تمس حصانة الدولة وتثير أسئلة حول شرعية أي تعويضات منفردة، بينما يرى الروس أن إمكانية استخدام الأصول ضمن إطار تعاوني لإعادة الإعمار يمكن أن تكون حلاً عملياً، خاصة في ظل تعقيدات المحاكم وتكاليف المواجهة الطويلة.

أشار الفريق القانوني الروسي إلى أن المصادرة تمس مبادئ النظام المالي العالمي، وأن حماية الاستثمار والسيادة تدفع الدول إلى درء مخاطر المصادرة السياسية، حتى لو تطلب الأمر سلوك طرق قانونية طويلة الأجل للحيلولة دون تفكك النظام المالي الدولي.

اقتربت أوروبا من فكرة التسوية كخيار استراتيجي، لكنها واجهت حواجز سياسية وقانونية داخلية، خصوصاً مع تزايد الضغوط من دول شرق أوروبا التي رعت في البداية المصادرة، وتراجع دعمها لاحقاً مع تداعيات اقتصادية محتملة على اقتصاداتها القريبة من روسيا.

لا قروض تعويضات على حساب روسيا

في إطار التفاوض، لم تطلب روسيا استعادة جميع الأصول فوراً، بل أقرت مبدأ التفاوض وذكر بعضها أنها قد توافق على توجيه بعض الأموال إلى مشروعات دولية محايدة تنموية، مع احتمال إعادة بعض الأصول مقابل التزامات روسية. وقد أفرجت جهة مثل Euroclear عن أكثر من 600 مليون دولار من أموال صندوق التنمية الاقتصادية المجمدة لاستخدامها في مشاريع في دول أخرى، وتتوقع أن يتيح ذلك الإفراج عن مبالغ إضافية في المستقبل كجزء من مسار تفاوضي محتمل.

تطرح روسيا نفسها كطرف واقعي ومستعد للالتزام بتحسين الأوضاع مع الاعتراف بأن المصادرة كانت خطأً، بينما يواصل الأوروبيون موقفاً يربط بين التعويضات والتعهدات القانونية، وهو ما يحافظ على وجود إطار قانوني يحد من استغلال الأصول السيادية في الحصار المستمر.

آثار الصراع القانوني وآفاقه

يظل الهدف الروسي في هذه المواجهة ليس فقط الإفراج عن أموال بعينها، بل إظهار أن الحصانة السيادية أسمى من أي قرار سياسي، وأن اعتماد أوروبا على إجراءات المصادرة قد يخلق سابقة خطيرة قد تفتح الباب أمام مصادرة أصول سيادية لدول أخرى في أزمات مستقبلية.

في المقابل، ترى أوروبا أن المصادرة رسالة سياسية مهمة يجب أن تقود إلى حساب العدوان، لكنها تجد نفسها أمام كلفة قانونية واقتصادية عالية وتوترات داخلية، إضافة إلى تقلبات الأسواق وتغير مواقف الدول الأعضاء في مواجهة التحديات المالية والالتزام بمبادئ الاتحاد.

يتوقع أن تستمر القضايا المرفوعة أمام المحاكم الدولية لأعوام، وأن تكون النتيجة النهائية أقرب إلى تسوية سياسية وقانونية لا تتيح للطرفين تحقيق مكسب حاسم فوري، بينما تبقى الأموال مجمدة وتحد من إمكانية استخدامها في مشاريع محددة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى