ترمب والحرب والركود وآثار غزة والشيخوخة: أوروبا تواجه اختبارات صعبة في 2026

أزمة وجودية تتفاقم في الاتحاد الأوروبي
يواجه الاتحاد الأوروبي أزمة وجودية متعددة الأبعاد تجمع تحديات سياسية واقتصادية وعسكرية وخللاً ديموغرافياً وأزمة أخلاقية تقوض شرعية المشروع. يزداد القلق مع دخول العقد الثالث والثلاثين لاليورو، حيث تتزايد الضغوط خارجياً وداخلياً وتظهر علامات انقسام عميق قد يؤدي إلى تفكك أو نهاية حقبة الوحدة.
يؤكد تقرير المخاطر العالمية للاتحاد الأوروبي في 2025، الذي أعده المعهد الأوروبي للدراسات الأمنية، وجود بيئة جيوسياسية غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الباردة، مع توتر متصاعد بين الأطلسي وضغوط الهجرة وركود صناعي وتراجع ثقة الناس في مؤسسات الاتحاد.
تشير المحادثات مع خبراء إلى أن جوهر الأزمة يكمن في قيادة ضعيفة للغاية، وإن استمر هذا النهج قد يقود الاتحاد إلى مسار الانتحار والانهيار ما لم يتم تغيير القيادة بسرعة.
يرى الخبير البلجيكي مارك لويكس أن الخلل يبدأ بالبناء المؤسسي نفسه، فالمفوضية الأوروبية التي كانت ضرورية في السبعينيات تحولت إلى هيئة غير منتخبة تملك صلاحيات تشريعية وتنفيذية هائلة، مما يخلق فاصلاً بين البرلمان والمجلس كأداة تبقى بلا مساءلة حقيقية.
دعا لويكس إلى معاهدة أمستردام جديدة تعيد السلطة التشريعية إلى البرلمان وتنقل التنفيذية إلى مجلس الوزراء، مع بناء وحدة تحترم التنوع وتلبي الأولويات الأوروبية والثقافة المشتركة.
من جانبه، اتفق فرانسيسكو شيتينو على أن القيادة الأوروبية تعكس أزمة أعمق في بنية النظام، مشيراً إلى أن قادة مثل فون دير لاين وماكرون وميرتس يقفون على أرضية هشة وتراجع شعبيتهم واضح، مع وجود نسب تأييد منخفضة ومعدلات عدم رضا كبيرة.
أظهرت استطلاعات Eurobarometer لعام 2025 أن 54% من الأوروبيين رفضوا توسيع صلاحيات المفوضية، واعتبر 61% أن السياسات الاقتصادية لا تخدم مصالحهم، وهو ما يعزز فكرة الفجوة العميقة بين النخب والشعوب.
حذر لويكس بقوة من أن انهيار الاتحاد بات وشيكاً، وربما يتسارع في أشهر قليلة، مؤكداً أن هذا التقييم ليس مبالغاً به وإنما يعكس اتجاهات واقعية تشهدها القارة.
الاقتصاد والدفاع في مواجهة التحولات الكبرى
أظهر تقرير تشاتام هاوس أن الاتحاد يفتقر إلى رؤية موحدة للدفاع عن أوكرانيا، فكل دولة تحدد مبرراتها الخاصة، وهو ما يعيق تقديم دعم مستدام.
وصف لويكس الانتقال إلى سياسات عسكرة بأنه خطأ جيوسياسي فادح، لأن الاتحاد يسير عكس مسار السلام بقيادة أميركية وروسية، كما أن الأوروبيين لا يملكون الموارد الكافية للإنفاق العسكري.
قال شيتينو إن أوروبا تقارب عتبة 800 مليار يورو في الإنفاق على التسلح، وتخصم هذه الأموال من الرفاه الاجتماعي والمدارس والمستشفيات، محذراً من اقتصاد مسلح يستهلك طاقاته الداخلية.
وفق تقرير الوكالة الأوروبية للدفاع بلغ الإنفاق 343 مليار يورو في 2024 (1.9% من الناتج المحلي)، وتوقّع التقرير 381 مليار في 2025 مع هدف تراكمّي يصل إلى 800 مليار عبر خطة إعادة تسليح أوروبا 2030، مع وجود قروض إضافية.
وتتجه جهود الاتحاد نحو رفع الإنفاق العسكري بخط متوازٍ مع إجراءات أخرى، وهو ما يخفّض القدرات المالية المطلوبة لمجموعة اليورو.
اعتبر لويكس أن العقوبات المفروضة على روسيا فشلت في إضعاف موسكو، بل أضرت بالاقتصاد الأوروبي أيضاً بشكل كبير.
من جهة أخرى، قال شيتينو إن السياسة الاقتصادية الأوروبية تغيرت بعد 2022، حيث انعزلت عن الطاقة الروسية وارتفعت أسعار النفط، ما أدى إلى انخفاض الناتج الألماني وتراجع التصدير وارتفاع الخسائر، وهو ما يجعل أوروبا تمضي نحو الاعتماد على آسيا ومبادرة الحزام والطريق.
وأضاف أن أوروبا تقف بين نموذجين متصارعين (الأميركي والآسيوي)، من دون وحدة داخلية حقيقية، فبينما لا ترغب الولايات المتحدة في ارتباط أوروبا بالصين أو روسيا، فإن منطقة الاتحاد الاقتصادي الكبيرة تبقى ذات أهمية للنخبة الحاكمة في الولايات المتحدة.
ويؤكد أن الأميركيين يريدون أموال شعوب أوروبا لكن بدون قدر كاف من الاستقرار السياسي أو التدخل السياسي المعقول، وهو وضع يفرض على أوروبا اعتراض طموحاتها الاقتصادية والأمنية.
موجة ترامب وإعادة هيكلة أميركية وعزلة أوروبية
فسر لويكس الديناميكية الجديدة بأن وجود قيادة قوية في البيت الأبيض قد يكون في بعض الأحيان مفيداً، لكن ترامب وبوتين يسعيان إلى إظهار سوء إدارة أوروبا ومحاربة ما يعرّف بـ”الدولة العميقة”، بينما يرى بعض قادة أوروبا أنهم وحدهم في مواجهة مخاطر shifting Power.
أوضح أن مسؤولين أميركيين سابقين في أجهزة الاستخبارات قالوا بأن الجيل الجديد من هذه الأجهزة قد يواجه تغييرات كبيرة، ما يعني احتمال أن تضطر أسماء أوروبية بارزة إلى مغادرة المشهد تحت ضغط سياسي أو قضائي.
اعتبر أن استراتيجية ترامب تقوم على كشف الفساد في الإدارة الأوروبية، وأن عهد المفوضية السابقة لم يكن واضحاً في فضح التدخلات، بينما يرى جمهور الآن أن المسار السابق قد يتغير بشكل جذري.
اعتقد أن الولايات المتحدة ستعيد ترتيب أولوياتها، ولن تكون أوروبا في مقدمة الاهتمامات الأميركية، وهو ما يجعل أوروبا تقف أمام خيار البحث عن شراكات استراتيجية جديدة.
في هذه الصورة، يلاحظ أن الأسوأ هو اتجاه ترامب إلى سياسات حمائية قد تضر الاقتصاد الأوروبي، لذا ينبغي لأوروبا البحث عن عالم متعدد الأقطاب وتخفيف الاعتماد على واشنطن.
أوروبا و”أميركا أولاً”
اتفق شيتينو مع هذا التحليل بأن سياسات ترامب الاقتصادية والأمنية قد تفقد أوروبا شريكها الأساسي وتدفعها للبحث عن خيارات استراتيجية جديدة، مع بقاء أوروبا سوقاً استهلاكياً رئيسياً.
يقول لويكس إن ترامب يفضّل صفقات فردية ويفرض إعادة نظر في التحالف الأطلسي، وهو ما قد يؤدي إلى تفكك الإطار الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي تصريحات سابقة لأمين عام الناتو، قال مارك روته إن على الأوروبيين أن يتحملوا معاناة كتلك التي عانى منها أجدادهم سابقاً، وهو موقف يعكس ضغوطاً تؤثر في شرعية التحالف والدفاع الأوروبي.
على الصعيد الاقتصادي، حذر لويكس من احتمال فرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية وتراجع الاتفاقيات التجارية، ما يضري الاقتصاد الأوروبي خاصة ألمانيا التي تعتمد على التصدير، وهذا يستدعي التفكير في استقلالية اقتصادية وأمنية أقوى.
ورأى أن حرب ترامب على “الدولة العميقة” قد تخلق فوضى في التحالف الأطلسي، وإذا أعادت الولايات المتحدة ترتيب نفسها فقد لا تستطيع الاستثمار في الأمن الأوروبي كما في السابق.
ويضيف أن أوروبا لم تستعد لهذا السيناريو، فالنخب السياسية كانت تأمل بحكومة أميركية تقليدية لكنها تواجه الآن إدارة تتخذ قرارات سريعة وحماية قوية للصناعة الأميركية.
الديمقراطية تتآكل.. الشعبوية مرآة الغضب الشعبي
تشير بيانات مؤشر الفساد لعام 2024 إلى تراجع تاريخي في نزاهة حكومات غرب أوروبا للمرة الأولى منذ عقد، حيث انخفض المتوسط من 74 إلى 72 من أصل 100، وبلغت أرقام متفرقة كفرنسا 67 وإسبانيا 60 بينما استقرّت إيطاليا عند 56.
في انتخابات البرلمان الأوروبي، سجلت المشاركة أضعف نسبة تاريخية عند 48.1% في يونيو 2024 مقارنة بـ 50.7% في 2019، ما يعكس فجوة تمثيلية وتزايد شعبوية كبديل عن النظام التقليدي غير الشفاف.
قال شيتينو إن الديمقراطية تتغير بسرعة وأن الطبقة الوسطى تتقلص بينما تزيد الضغوط المعيشية، مبرزاً أن صعود الشعبوية جاء نتيجة غضب من البيروقراطية الأوروبية وتراجع الأجور منذ اعتماد اليورو.
وأشار خبير الاقتصاد السياسي الإيطالي إلى أن تأثير النموذج الشعبوي الأميركي موجود فعلاً في أوروبا، فليمتلك اليمين المتطرف دعم المال والإعلام والتكنولوجيا، وتستخدم أدوات رقمية لتغيير وعي الناس وتوجيه السياسة بعيدا عن المسار الديمقراطي التقليدي.
رأى لويكس أن الإعلام الرسمي يصف الأحزاب كـ”يمين متطرف” بينما هي في الواقع أحزاب وسط ترفض فرض الوصاية وتلتزم بمصالح شعوبها.
الأزمة الديموغرافية: نزوح الشباب وشيخوخة القارة
أشار شيتينو إلى أن مشكلة الهجرة تتزايد مع شيخوخة سكانية، فمثلاً لدى إيطاليا نحو 100 إلى 150 ألف مهاجر في 2024، وتؤكد أوروستات أن نسبة كبار السن بلغت 21.6% وهذا يعني نقصاً في العمل بنحو مئات الآلاف بحلول 2040 ما يستدعي هجرة مدروسة ودمج عائلات مهاجرة لتعويض النقص.
بلغ إجمالي المهاجرين خارج الاتحاد 2.7 مليون في 2022، مع توقع ارتفاع الرقم إلى نحو 3 ملايين، وتؤكد التوقعات وجود عجز سيُقدر بنحو 35 مليون عامل بحلول 2040 إذا لم تتم إدارة الهجرة بشكل منسق وفعال.
الأزمة الأخلاقية: أثر غزة
أشار لويكس إلى أزمة أخلاقية عميقة بسبب صمت أوروبا أمام معاناة إنسانية واسعة، قائلاً إن بنية أوروبا التي تبنى نفسه بعد الحرب العالمية الثانية على أساس منع الكوارث الإنسانية لا يمكن أن تستمر إذا بقيت المعابر الإنسانية مطفأة، وهو ما يضعف المبادئ الأخلاقية للمشروع الأوروبي.
أضاف شيتينو أن أوروبا فقدت شرعيتها الأخلاقية عندما تقف مواقفها غامضة أمام انتهاكات حقوق الإنسان وتدعم حروب دون موقف واضح لصالح الإنسان، وهو ما يزيد من تآكل ثقة المواطنين بمؤسسات الاتحاد.
عقد جديد أم انهيار تدريجي؟
يرى لويكس أن النموذج الأوروبي يواجه انهياراً محتملاً خلال أشهر قليلة، ويدعو إلى عقد جديد يعيد الثقة ويضمن استمرار الوحدة مع احترام التنوع، وربما الانتقال إلى نظام يشبه الكونفدرالية السويسرية.
أما شيتينو فيؤكد ضرورة الاستماع إلى إرادة الشعوب ووقف أي حروب أولاً، ثم فرض ضرائب تصاعدية وإعادة توزيع الثروة وتأميم القطاعات الاستراتيجية، وإلا ستتآكل الطبقة الوسطى وتتفاقم الغضب الشعبي بشكل لا يمكن السيطرة عليه.
ختم لويكس بأن العناوين تتغير في فلسطين وإيران وأوكرانيا وروسيا والولايات المتحدة، لكن أوروبا تتحمل مشاكلها بوسائل خاطئة، محذراً من أن عدم التغيير بسرعة قد يقود مستقبل القارة إلى وضع أسوأ بكثير.




