العرب يفتحون الباب أمام اليوان الصيني.. دخول هادئ بلا مواجهة مع الدولار

تصاعد استخدام اليوان في الشرق الأوسط
ترسّخ اليوان طريقه بثبات داخل المنظومة المالية في الشرق الأوسط مدفوعاً بتوسع العلاقات التجارية والمالية بين الصين والدول العربية وتزايد الحاجة إلى تنويع أدوات التمويل وتسوية العقود بعيداً عن الاعتماد الأحادي على الدولار.
تظهر أمثلة مثل إصدار مصر لأول سندات باندا وإدراج أدوات دين مقومة باليوان في دبي وتجربة السعودية في استخدام اليوان الرقمي، ملامح تحول تدريجي في المشهد المالي الإقليمي تقوده اعتبارات التكلفة والشراكات الاستراتيجية وتغيرات موازين التجارة العالمية.
ارتفعت حصة اليوان من التجارة العالمية ثلاث مرات خلال العقدين لتصل إلى نحو 13%، وفق تقرير إس آند بي غلوبال، ومع ذلك يبقى الدولار الأميركي ذو هامش سيطرة أوسع حتى الآن.
يربط خبراء مثل ماهر نقولا الفرزلي توسع اليوان بنقلة أوسع في دور الصين كقوة اقتصادية موازية للولايات المتحدة، مشيرين إلى أن الاستخدام العربي لليوان يتجاوز تحركاً تكتيكياً إلى مسار استراتيجي طويل الأمد.
التسويات والدين المقوّم باليوان في المنطقة
أبرزت البنية الرقمية والمالية شوائب جديدة، فظهرت مبادرات مثل انضمام السعودية إلى تجربة اليوان الرقمي في المدفوعات عبر الحدود، ما يعزز الروابط في بنية التسويات العالمية وتسهيل التعاملات العابرة للحدود.
افتتح بنك أوف تشاينا فرعاً في الرياض بهدف تسهيل المعاملات بالعملة الصينية في المنطقة، وهو خطوة تعميق للتسويات باليوان خارج الصين.
وقعت مصر مع الصين مذكّرة تفاهم للتعاون في العملات الرقمية وربط أنظمة المدفوعات، كما سمحت الحكومة المصرية للشركات الصينية باستخدام اليوان في تعاملاتها المحلية وفتح حسابات مصرفية بالعملة الصينية، بهدف تشجيع الاستثمارات الصينية.
استضافت أواخر مايو مجموعة من زعماء الدول العربية في إطار جهود لإرساء علاقات أكثر عمقاً مع الصين وتوسيع التعاون الاقتصادي في المنطقة.
شهد قطاع الطاقة أيضاً حضوراً لإثبات دور اليوان، إذ جرت صفقة غاز مسال مقوّمة باليوان بين شركة صينية وتوتال إنرجيز لشراء شحنة من الإمارات، كدليل على توسيع نطاق التسويات والدين المقوّم باليوان في قطاع الطاقة.
في أواخر أكتوبر، أعلن مسؤول صيني تعميق التسوية باليوان في الإمارات عبر اعتماد بنك في الإمارات كمصرف تسوية، ليصبح أحد المصارف الرئيسية في معالجة المدفوعات باليوان مع الصين، بما يعزز الروابط المالية بين البلدين.
بلغت تسويات المعاملات العابرة للحدود باليوان بين الصين والإمارات 864 مليار يوان في الأشهر التسعة الأولى من العام، بزيادة نحو 20% عن الفترة المقابلة من العام السابق، كما جددت الدولتان اتفاقية مبادلة عملات بقيمة 35 مليار يوان في عام سابق.
ولم يقتصر التوسع على التسويات بل امتد إلى أدوات الدين، حيث أدرج بنك الإمارات دبي الوطني سندات باندا بقيمة مليار يوان في ناسداك دبي ضمن برنامج سندات بقيمة 20 مليار دولار، وهي خطوة تفتح الباب أمام المستثمرين الآسيويين.
وفي الشارقة، شهدت دائرة المالية إصدار أول قرض مجمّع مقوّم باليوان بقيمة تقارب 400 مليون دولار بفائدة حوالي 2.6%، في سياق نمط تمويلي يزداد اعتماده على أدوات الدين المقوّم باليوان.
ترافق هذا التوجه مع طفرة في الإقراض الآسيوي للمنطقة، حيث جمعت القروض المجمّعة من بنوك آسيا والمحيط الهادئ للمستثمرين في الشرق الأوسط نحو 12 مليار دولار منذ بداية 2025، وهو مستوى قياسي يقارب ثلاثة أضعاف ما جرى جمعه في الفترة نفسها من العام السابق.
أحدث هذه التطورات كان إعلان بنك الرياض الحصول على قرض مجمع بقيمة 1.5 مليار دولار ومعظمه من بنوك في المنطقة الصينية، كما اقترض السعودي الفرنسي مليار دولار من بنوك آسيوية في يوليو الماضي، ما يعكس إقبالاً خليجياً عاماً على السيولة الآسيوية وتنوع مصادر التمويل في المنطقة.
وفي سياق مماثل، أعلن المغرب في نوفمبر خططاً للاستدانة من الأسواق الآسيوية عبر طرح سندات لتنويع مصادر التمويل والاستفادة من ظروف التمويل المناسبة هناك، وهو مؤشر على توجه تدريجي نحو التمويل الآسيوي الأقل كلفة في ظل تفاوت أسعار الفائدة العالمية.
الآفاق والتحديات في قبول اليوان كبديل
يؤكد الفرزلي أن صعود اليوان يعكس تحولا في موازين القوة المالية العالمية، فالصين تستخدم عملتها لتسوية تجارة النفط والغاز مع الخليج، وهو ما يفتح باباً لتدوير العائدات في أصول وسندات صينية وتعديل خريطة النفوذ بين الشرق والغرب، وهو تحول يعزز التنويع والاعتماد على محاور اقتصادية متعددة.
ويشير إلى أن هذا الاتجاه ينبع من منطق الثقة وتوزيع مخاطر، خاصة بعد تجميد أصول روسية مقوّمة باليورو والدولار، ما عزّز الميل نحو الذهب واليوان كخزين احتياطي آمن نسبياً، مع التنبيه إلى أن هذا التحول ليس انفصالاً فورياً عن النظام الغربي بل سعي الدول النفطية الكبرى لتقليل الاعتماد الأحادي على الدولار وفتح قنوات تمويل أكثر مرونة.
يتوقع ونغ أن يرسّخ اليوان موقعه كـ“عملة ثانية” لتمويل المنطقة خلال السنوات الخمس إلى العشر المقبلة، مدفوعاً بتزايد التجارة العربية-الصينية ومشروعات الحزام والطريق، مع تقليص تدريجي للفجوة مع اليورو، لكن النمو سيظل تدريجياً بسبب محدودية السيولة وقابلية التحويل خارج الصين وضعف أدوات التحوط خارج البلاد.
تعترض نفوذ اليوان في المنطقة عوائق بنيوية عدة، أبرزها ارتباط كثير من عملات الخليج بالدولار ووجود احتياطيات ضخمة بالدولار لضمان استقرار الأسعار، إضافة إلى قيود التحويل وسياسات انخفاض القيمة التي تزيد من مخاطر الأصول المقوّمة باليوان، وهو ما يجعل التوسع في المدى القريب محدوداً ومرهوناً بتطورات بيئة التنظيم والربط المالي العالمي.
تشير دراسات معهد لووي إلى أن الصين تستثمر في وسائلها المالية والتجارية لتوسيع نفوذها، لكنها تحتاج بيئة تنظيمية أكثر انفتاحاً لتكسب الثقة اللازمة من الأسواق وتُسرّع تبني أدواتها في العالم العربي.
يؤكد نقولا الفرزلي أن المشهد الجيو-اقتصادي يتجه نحو منافسة حقيقية بين قوتين عظيمتين، أميركا والصين، وأن المنطقة العربية باتت ساحة لتوازن استراتيجي يفتح الباب أمام نقل التكنولوجيا والحصول على تمويل طويل الأجل، ليصبح الشرق الأوسط شريكاً فاعلاً في النظام الاقتصادي العالمي بلا تبعية مطلقة لأي قوة.




