المحبوب عبد السلام: الترابي يرى في كارلوس هديةً مسمومة من الأردن

دخل رجل غريب وجذاب إلى متجر التحف في الخرطوم، فاستقبلته سيدة المكان بنظرة تلمع بفضولٍ يفوق ما يظهر على وجوه الزوار العاديين.
لاحظ الزائر صورة عسكري رفيع على الجدار، فأوضحت له السيدة أنها أرملته، وأشارت إلى أنه لو عاش لكان رئيساً للسودان.
روت زينب مصطفى عن زوجها الراحل الهادي المأمون المرضي، الذي أسس التنظيم الإسلامي في الجيش، وتولى منصب وزير الأشغال بعد انقلاب الإنقاذ في 30 يونيو 1989، لكن المرض لم يمهله كثيراً.
رواية كارلوس في الخرطوم
أدركت زينب لاحقاً خطورة الزائر، وأن أجهزة المخابرات الدولية تبحث عنه، وأن أجهزة فرنسا تسعى لاعتقاله أو القضاء عليه لأنه قتل في 1975 اثنين من رجال الأمن في فرنسا، ونجح في الفرار.
أعطى لها الزائر كتاباً لديفيد يالوب بعنوان “حتى نهاية العالم” وطلب منها إرساله إلى مكتب الترابي، قائلاً إنه سياسي مهم ويريد لقاء الرئيس عمر البشير أو الدكتور حسن الترابي.
ذهبت زينب وقابلت الدكتور المحبوب عبد السلام، مدير مكتب الترابي، ونقلت إليه الطلب.
التقاطع مع الترابي والكارلوس
وضع المحبوب الكتاب بين يدي الترابي وسأله هل يالوب هنا، فكان الرد: لا، الموجود هنا هو كارلوس.
كان كارلوس هو الاسم الشهير للفنزويلي إيليتش راميريز سانشيز، وهو الذي أطلقته منظمة حداد لخطف وزراء أوبك في فيينا عام 1975 بتنفيذ من القذافي.
لهذا السبب يعرف المحبوب قصة كارلوس من الألف إلى الياء، خصوصاً أنه تولّى الترجمة في المحادثات المعقدة بين المخابرات الفرنسية والسودانية، التي انتهت بتسليم كارلوس في 15 أغسطس 1994 إلى فرنسا، حيث يهرم الآن في أحد سجونها.
شاهد المحبوب كارلوس في المستشفى وهو يُنقل إلى الطائرة الفرنسية بعد أن أُغمي عليه بفعل جرعة مهدئات، فادرك أن قصته وصلت إلى فصلها الأخير.
خدع الأمن السوداني كارلوس ونقله من المستشفى إلى مكان آمن بذريعة وجود محاولة لاستهدافه، ثم انقض الحراس عليه وسلموه للفرنسيين الذين صعدوه إلى الطائرة.
في الثمانينيات طاف كارلوس في عواصم أوروبا الشرقية، واكتشفت أجهزة الأمن صعوبة ضبط هذا الرجل المولع بالحياة الليلية مع كل ما يرافقها من شراب ومغامرات وتهورات، ومع سقوط الاتحاد السوفياتي لم تعد تلك الملاجئ متاحة، فلم يكن الذهاب إلى بغداد مغرياً بسبب الحصار، فكان العراق محاصراً.
استخدم نظام حافظ الأسد كارلوس في عمليات في فرنسا ولبنان، لكنه طلب منه لاحقاً المغادرة في سياق جهود تحسين الصورة مع الغرب، واختير في النهاية صداقة صبري البنا (أبو نضال) على صداقة كارلوس المتعب والمحرج. الأردن أيضاً تعب من الضيف الثقيل، وطالبته بالمغادرة فكانت الرحلة السودانية.
علمتني متابعة ملف كارلوس درساً في الصبر، فظل الملف مفتوحاً لعقدين على طاولة ضابط المخابرات الفرنسي فيليب روندو، الذي سافر إلى بلدان كثيرة للاقتراب منه ونقله إلى السجن الفرنسي.
المفاوضات والتسليم إلى فرنسا
بدأت مفاوضات لتسليم كارلوس من السودان إلى فرنسا عندما أبدى السودان استعداده، وفقاً لفتوى قانونية، وتولى باريس مهمة الإعداد من خلال روندو، الذي سافر إلى الخرطوم وتنسيق مع الإنتربول السوداني والفرنسي.
أُعدت الخطة بحيث يصعد كارلوس إلى طائرة خاصة وتوقع فرنسا توقيع التسلم، على أن يُعلن الخبر بعد نحو ست ساعات من دخول الطائرة الأجواء الفرنسية.
حسبما روى المحاور، نُقل كارلوس إلى مستشفى لإجراء عملية بسيطة متعلقة بالدوالي قبل نقله، واعتبرها مدير المستشفى خطوة لإتمام التسليم لكن هناك تعقيدات قانونية فرنسية قد تُبطل الإجراءات.
كان يوم النقل يوماً مضطرباً في الخرطوم، وكنت في مكتب الدكتور نافع علي نافع مدير جهاز الأمن، حيث ساد جو من التوتر لاحتمال اختفاء كارلوس ثم عُثر عليه ونُقل إلى الطائرة.
تتابعت عملية الترجمة بين الإنتربول السوداني والفرنسي حتى لحظة نقله إلى الطائرة، ورأيت كارلوس وهو يُقِلّع.
بدأت تقارير المفاوضات تتحدث عن دعم سوداني في نقل التقنية الحديثة مثل أجهزة التصوير الليلي، وربما تدريبات أمنية، لكن لا أظن أن السودان حصل على مقابل مالي كبير من فرنسا في تلك الصفقة.
ذكر روندو في مذكراته أن كارلوس استيقظ في الطائرة وسمع أصواتاً تتحدث الفرنسية، ما أضاف عنصراً غامضاً إلى تفاصيل العملية.
أحرج وجود أسامة بن لادن في السودان في السنوات الأولى حين ظهرت كقيد من تقنية الاستثمار في مطار شرق السودان، ثم مع ضغوط دولية وإقليمية أصبح من اللازم التخلي عن وجوده، وهو ما جرى فعلاً في إطار تقليل التوتر الدولي والإقليمي، مع أن القرار لم يكن سهلاً على النظام.
كان الإذعان من علي عثمان محمد طه، نائب رئيس الجمهورية، وليس فقط من البشير نفسه، إذ حان الوقت لإظهار قبول وتعاون مع المجتمع الدولي وتخفيف حمولة الأزمة.
فكان لا بد من إخراج أسامة بن لادن من السودان، كجزء من سياسة التوازن والت kelle لمرحلة زارت السودان، وتوالت لقاءات مع الترابي حول قضايا فقهية واغاثة، لكنها لم تفض إلى تشجيع التطرف بل إلى محاولة التفكير في تحديث الإسلام بالحوار.
شهدت لقاءات بين الترابي وبن لادن إجراءات إغاثة قبل حرب الخليج، وهذا اللقاء جرى في أطر عامة وأدوات إعلامية ظهرت فيها الخرائط الكبرى للعالم الإسلامي، وتركز على رسم سياسة جديدة تراعي التوازن ورفض العنف.
كان لدى السودان مزارع ومعسكرات بها أفراد من القاعدة، لكن النشاط كان محدوداً وكان هناك خوف من أن تتحول هذه العلاقات إلى ظاهرة أكثر اتساعاً في مرحلة لاحقة، وهو ما انعكس في تغيّر السياسة الخارجية السودانية مع الغرب لاحقاً.
زار صدام حسين السودان وأرسل فاروق حجازي في إطار علاقات متشابكة بينها وبين الأجهزة السودانية، وهو ما حاول لاحقاً تبريره وتحليل أثره في سياق الغزو الأميركي للعراق.
أوضح المحاور أن الترابي كان وسيطاً في لقاءات وتفاهمات، وأن وجود بن لادن في السودان في تلك الحقبة يظل جزءاً من نقاش تاريخي معقد حول الدين والسياسة والأمن الدولي.
اعتبر المحاور أن نظام الإنقاذ سار في اتجاهات متعارضة، وطرح فكرة وجود ميليشيات تشبه الحرس الثوري الإيراني كأداة داخلية وخارجية، وهو عامل أسهم في تقسيم السودان وتعرّضه لاحقاً لعديد من التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية.




