بعد اتفاق وقف إطلاق النار: ماذا نعرف عن تاريخ النزاع بين تايلاند وكمبوديا؟

هدنة تاريخية بوساطة أميركية
أعلنت الدولتان هدنة موسعة خلال مراسم احتفالية حضرها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي توسط لإيقاف القتال على طول الحدود المتنازع عليها بعدما بلغت حدة المعارك بينهما مستوى خطيراً في الأسابيع الأخيرة.
وصف ترمب الاتفاق بأنه إنجاز قال كثيرون إنه كان مستحيلاً، وذكر رئيس الوزراء الكمبودي هون مانيت أن الاتفاق يوم تاريخي، بينما قال رئيس الوزراء التايلاندي أنوتين تشارنفير أكول إن الاتفاق يشكل لبنات لبناء سلام دائم، وفق ما أفادت به وكالة أسوشيتد برس.
وخلال المراسم أشار ترمب إلى أن الزعيمين شُجاعان وأن الهدنة التي توسط فيها أنقذت ملايين الأرواح، مضيفاً أن التزام الولايات المتحدة بالاستقرار والسلام في المنطقة دفع إدارته إلى العمل فوراً على منع التصعيد، ووصف الاتفاق بأنه معاهدة سلام.
تأتي هذه الهدنة بعدما جرى التوصل إلى وقف لإطلاق النار منذ ثلاثة أشهر، عقب اتصال ترمب بالزعيمين حينها وطلبه منهما وقف الأعمال القتالية وإلا تعرّضا لخطر تعليق المحادثات التجارية مع واشنطن. وكان ترمب قد هدّد سابقاً بفرض رسوم جمركية تصل إلى 36% على معظم صادرات البلدين، قبل أن يُفرض فعلياً تعريفة نسبتها 19% على كل من تايلندا وكمبوديا.
وتبادل الطرفان الاتهامات بشن نيران وقصف مدفعي وصاروخي دام خمسة أيام، مما أسفر عن سقوط 48 قتيلاً على الأقل ونزوح نحو 300 ألف شخص، وهو أعنف قتال شهدته المنطقة في الحديث القريب.
ولعب ترمب دوراً محورياً في الدفع نحو الوساطة، فإذ تعتبر تايلندا حليفة للولايات المتحدة بموجب معاهدة، فإن الجيش التايلاندي يحتفظ بعلاقات وثيقة مع الجيش الأميركي. وأسهمت الضغوط الأميركية في دعم جهود الوساطة التي قادها رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم في 28 يوليو الماضي، ما أدى إلى تأييد كمبوديا منح رئيس الوزراء هون مانيت جائزة نوبل للسلام وتثمين «حنكته السياسية الاستثنائية» وفقاً لما نُقل عن وكالات.
واتفقت الدولتان، بحسب إعلان مشترك، على تشكيل فريق مراقبين من رابطة آسيان، وخفض التصعيد العسكري، وإزالة الأسلحة الثقيلة من المنطقة الحدودية، مع موافقة تايلندا على إطلاق سراح 18 أسيراً حرباً كمبودياً إذا التزمت الإجراءات. كما اتُفق على التنسيق لإزالة الألغام الأرضية التي كانت سبب اندلاع القتال بعد إصابة جندي تايلندي أثناء دورية حدودية.
كيف بدأ النزاع الأخير؟
تجددت الاشتباكات في نهاية يوليو الماضي بين تايلندا وكمبوديا في مناطق حدودية متنازع عليها منذ عقد من الزمن، ما أثار توتراً سريعاً وأدى إلى إرسال تايلندا مقاتلة من طراز F-16 لمهاجمة قواعد الجيش الكمبودي.
شمل القتال تبادلاً لإطلاق النار وقصفاً مدفعيّاً وصاروخياً، وأسفر عن سقوط 15 قتيلاً من تايلندا ووجود قتيل واحد في كمبوديا، إضافة إلى إصابات، ودفعت عشرات الآلاف إلى الفرار من المناطق الحدودية.
هذه المواجهة جاءت بعد تصعيد في مايو الماضي عندما قتل جندي كمبودي بالرصاص في حدث آخر، وتبادل الطرفان خفض العلاقات الدبلوماسية بعد انفجار ألغام أدى إلى إصابة جنود تايلنديين.
فرضت تايلندا قيوداً مشددة على حدودها مع كمبوديا، فأغلقت كل المعابر باستثناء مرور الطلاب والمرضى وذوي الاحتياجات الأساسية، بينما حظرت كمبوديا الأفلام والبرامج التايلندية، وامتنعت عن استيراد بعض المنتجات التايلندية، وقطعت بعض روابط الإنترنت الدولية، وقلّلت إمدادات الطاقة واستيراد الوقود من تايلندا.
يرجع الخلاف إلى أكثر من قرن، ويتعلق بامتداد منطقة تعرف بمثلث «المثلث الزمردي» حيث تلتقي حدود تايلندا وكمبوديا ولاوس، مع امتداد حدود برية يفوق 800 كيلومتر بين البلدين. وتستند المطالبات إلى خريطة رسمت عام 1907 أثناء الحكم الفرنسي، وتستخدمها كمبوديا كمرجع للمطالبة بالأراضي، بينما تعتبر تايلندا أن الخريطة غير دقيقة.
في فبراير الماضي دخلت قوات كمبودية مع عائلاتها معبداً أثرياً على الحدود في إحدى المناطق المتنازع عليها وأنشدوا النشيد الوطني الكمبودي، ما أدى إلى مشادة قصيرة مع القوات التايلندية. وتتركز أبرز الخلافات حول معبد برياه فيهيار، وهو معبد هندي قديم يعود إلى القرن الحادي عشر، وكانت محكمة العدل الدولية قد منحت السيادة عليه للكمبوديين في 1962، وهو ما ظل يسبب توتراً بين البلدين. وكررت المحكمة الحكم في 2013، وهو قرار يثير استياء تايلندا حتى اليوم.
ماذا سيحدث بعد ذلك؟
تسعى كمبوديا إلى حكم إضافي من محكمة العدل الدولية بشأن مناطق متنازع عليها، بينما تقول تايلندا إنها لا تقبل اختصاص المحكمة وتدعو إلى حل الخلافات عبر آلية ثنائية تشمل اللجنة المشتركة التي تأسست في عام 2000 كآلية فنية لمناقشة ترسيم الحدود البرية.
لكن كمبوديا قررت رفع القضية إلى محكمة العدل الدولية وتؤكد أنها لن تناقش المناطق المتنازع عليها مرة أخرى ضمن الآلية الثنائية بين البلدين.
عداء ثقافي
لا تقف المشكلة عند الحدود وحدها، بل تتجاوزها إلى «عداء ثقافي» عميق يعود إلى قرون، حين كانت البلدتان إمبراطوريتين متنافستين. في العصر الحديث تراجع مستوى التنمية في كمبوديا بسبب الاستعمار الفرنسي والحكم القاسي للخمير الحمر، في حين تظل تايلندا تشارك مع كمبوديا في مجالات ثقافية مثل الملاكمة والرقص بالأقنعة والملابس التقليدية والطعام، وهو ما يعكس عمق الخلاف وتداخله مع الهوية الوطنية.




