اخبار دوليةاخبار سياسية
هل سيتغير شكل العلاقات الدولية في عام 2030؟ وهل ستنكفئ الدول كل على نفسها؟
جائحة كورونا والحرب الأوكرانية ، والصراعات الإقليمية تعجل بتغييرات كبيرة

بقلم : محمد العارف
سؤال طالما شغلني، ولا سيما أن معظم الوقائع تشير إلى تحولات كبرى ستؤثر في طبيعة تعاطي الدول مع علاقاتها الخارجية في مطلع الحقبة المقبلة.
ولعل ما يعزز هذا التساؤل هو ما شهدناه منذ جائحة كورونا عام 2020، مرورا بما تلاها من أزمات بعد عامين، وصولا إلى الحرب في أوكرانيا وما خلفته من تداعيات اقتصادية وسياسية وعسكرية، فضلا عن أحداث إقليمية ودولية أخرى عميقة الأثر. أمام هذه التطورات، تبرز الحاجة الملحة إلى الربط بينها وبين نظريات عدد من المفكرين الذين تناولوا هذه القضايا. فقد تحدث منظرو المدرسة الواقعية الدفاعية وكتاب ما بعد العولمة عن فكرة تفكك العولمة أو نزع العولمة (De globalization)، باعتبارها أحد أبرز المخرجات المحتملة لهذه الأزمات المتلاحقة.

وانطلاقا من هذه القراءة، تلتقي التحليلات مع ما أشار إليه منظرو العلاقات الدولية المعاصرون، مثل صموئيل هنتنغتون في كتابه صدام الحضارات، من أن العالم مقبل على تكتلات حضارية أكثر من انفتاح عالمي، الأمر الذي قد يقود إلى انغلاق على الهويات الحضارية. وعلى المنوال نفسه، ذهب فرنسيس فوكوياما في كتاباته الأخيرة إلى الحديث عن عودة الدولة القومية بعد أن بدت العولمة بلا حدود في تسعينيات القرن الماضي.
ويتقاطع هذا التوجه مع مفاهيم راسخة في الفكر السياسي، إذ إن تركيز الدولة على شؤونها الداخلية وتقليص تدخلها في القضايا الخارجية، سواء سياسيا أو عسكريا أو اقتصاديا، يعرف بـ الانكفاء الاستراتيجي (Strategic Retrenchment) أو أحيانا بـ الانعزالية (Isolationism). وقد تناول هذه الفكرة منظرو المدرسة الواقعية مثل هانس مورغنثاو وكينيث والتز، مؤكدين أن الدول تميل في أوقات الأزمات أو التهديدات الوجودية إلى تقليص التزاماتها الخارجية للتركيز على أمنها الداخلي.
وفي الاتجاه نفسه، ولكن من منظور مغاير، رأى بعض منظري الاقتصاد السياسي في الفكر الليبرالي، مثل جون ماينارد كينز في مرحلة ما بعد الكساد العظيم، أن تبني سياسات حمائية وانكفائية يعد وسيلة لإعادة البناء وحماية الإنتاج المحلي، ضمن ما يعرف بـ القومية الاقتصادية (Economic Nationalism) أو الحمائية (Protectionism).
ومع الانتقال من الجانب النظري إلى الوقائع الملموسة، تتكشف أمامنا مؤشرات عملية على أن موجة الانكفاء قد بدأت بالفعل منذ عام 2020 وحتى العام الجاري 2025، خاصة في القطاعات الحساسة مثل التكنولوجيا والطاقة والغذاء والاقتصاد. وتتجلى هذه المؤشرات في صراعات اقتصادية عالمية وأزمات جيوسياسية، كالحرب التجارية الأميركية الصينية وما تبعها من أزمة الرقائق الإلكترونية التي تتربع على صناعتها تايوان، والتي تسعى الصين إلى استعادتها تحت سيادتها، في حين ترفض واشنطن ذلك بشدة نظرا إلى أن هذه الرقائق تمثل عصب عمل معظم الصناعات المتقدمة، من السيارات الحديثة إلى مركبات الفضاء.
وإلى جانب ذلك، تسهم حروب مكلفة في تعميق هذا التوجه، مثل تجربة الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، ثم تجربة روسيا في أوكرانيا وما خلفته من أعباء مادية ضخمة أثرت في أسعار الغذاء عالميا وعلى سلاسل الإمداد والتوريد. كما كان لجائحة كورونا أثر عميق في تعطيل سلاسل الإمداد وحركة الطيران والتجارة والسفر، وفي تقليص قوة العمل. وتضاف إلى هذه الدوافع موجة صعود التيارات الشعبوية والقومية، مثل شعار أمريكا أولا وما تبعها من حرب التعريفات الجمركية المرتفعة، التي شنها الرئيس الأمريكي ترامب على الواردات إلى بلاده، بهدف تعزيز الصناعة والإنتاج داخليا، وعسكريا تفضيل الإدارة الأمريكية الحالية عدم الدخول في صراعات خارجية مكلفة بالثقل الأمريكي كله، والندم على خوض حروب كأفغانستان والعراق، وأوروبيا، يبرز الخروج الفرنسي التدريجي من أفريقيا، وقبل ذلك تجربة البريكست التي كرست خروج بريطانيا واستقلالها عن الاتحاد الأوروبي. وتتبنى هذه التيارات، وفق ما يوضح جون ميرشايمر، منطق الواقعية الهجومية الذي يرى أن الدول العظمى قد تعيد تموضعها وفق ميزان القوى وتتراجع عن التزامات بعيدة جغرافيا عندما تكون كلفتها مرتفعة.
وعلى ضوء هذه المعطيات، تشير تقارير صادرة عن مؤسسات مثل المنتدى الاقتصادي العالمي وصندوق النقد الدولي إلى استمرار إعادة توطين سلاسل الإنتاج (Reshoring) خلال الفترة من 2025 إلى 2035. كما تتوقع هذه المؤسسات تسارع استراتيجيات الاستقلال الغذائي والتقني، خصوصا في مجالات أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي، وتحذر في الوقت نفسه من أن أي صدمات جديدة، أوبئة أو صراعات كبرى أو كوارث مناخية، قد تعجل بمزيد من الانكفاء.
وبناء على هذا المسار المتوقع، قد نشهد بعد عام 2035 تثبيتا مؤسسيا لهذه السياسات، مثل تحول المنظمات الدولية إلى أطر إقليمية أكثر من كونها عالمية، وقيام كتل حضارية أو اقتصادية شبه مغلقة، مثل أميركا الشمالية وأوروبا وشرق آسيا والعالم العربي والإسلامي.
وخلاصة القول، إنه وبالنظر إلى هذه الاتجاهات وإلى ما طرحه منظرون من الواقعيين مثل مورغنثاو والتز وميرشايمر، ومن ما بعد العولمة مثل هنتنغتون وفوكوياما، يمكن التأكيد أننا نعيش بالفعل بدايات حقبة الانكفاء، التي قد تتبلور ملامحها الكاملة خلال العقد القادم إذا استمرت عوامل الضغط العالمي أو تصاعدت. ومع ذلك، تبقى جميع الاحتمالات واردة، فصناعة القرار الدولي تخضع في جانب كبير منها للظروف الطارئة والمفاجآت التي قد تغير المسار في أي لحظة.