المتهم الأبرز في نظر ترامب.. ماذا نعرف عن اليسار الأميركي؟

تشهد الولايات المتحدة تصاعد الاستقطاب السياسي منذ تولّي دونالد ترمب السلطة في 20 يناير، مع سيطرة الجمهوريين على مجلسي النواب والشيوخ وتوفر أغلبية محافظة في المحكمة العليا، ما يمنح ترمب والجمهوريين سيطرة شبه مطلقة على السلطة.
وتزايدت حدة العنف السياسي مع سلسلة من حوادث إطلاق النار واغتيالات لشخصيات بارزة، منها اغتيال الناشط اليميني تشارلي كيرك في 10 سبتمبر، وإطلاق النار على رئيسة مجلس نواب ولاية مينيسوتا ميليسا هورتمان وزوجها، إضافة إلى اعتداءات على منشآت تتبع لإدارة الأمراض ومكافحتها، وحادثة إطلاق نار في مركز احتجاز تديره ICE في دالاس، ما رفع مخاوف الأميركيين من العنف السياسي.
ولعل الحادثة الأبرز كانت اغتيال تشارلي كيرك المقرب من ترمب، الذي اتهم ما سماه “اليسار المتطرف” بالمسؤولية عن اغتياله، في إطار حملة إعلامية يمينية محافظة ضد اليسار والديمقراطيين.
كما أعلن ترمب السبت أنه أمر وزارة الحرب بإرسال قوات إلى مدينة بورتلاند بولاية أوريجون استجابة لما وصفه بـ”الهجمات” التي تتعرض لها منشآت ICE من قبل إرهابيين محليين، منهم حركة أنتيفا اليسارية المناهضة للفاشية.
وحافظ ترمب كذلك على مهاجمة الجامعات قائلاً إن “اليسار المتطرف” يسيطر عليها، وهاجم مرشحين ديمقراطيين ينتمون للجناح التقدمي باعتبارهم “يساريين متطرفين”.
اليسار الأميركي وأطيافه الثلاث
يتكون ما يعرف بـ”اليسار الأميركي” عادة من ثلاث فصائل رئيسية، اليسار الاشتراكي، واليسار الليبرالي، واليسار المعتدل، ولكن عند الحديث عن اليسار في أميركا فإننا نتحدث في النهاية عن أجنحة الحزب الديمقراطي وفق الكاتب السياسي روس باركان.
ولا يقصد باركان أن اليسار مقتصر على الحزب الديمقراطي فقط، فهناك نشاط سياسي خارج الحزب، لكنه يوضح أن الغالبية العظمى من النقاشات بشأن “اليسار” في أميركا تنتهي عادة عند طبيعة النظام السياسي الأميركي إلى الحديث عن الاتجاه الذي يجب أن يسلكه الحزب الديمقراطي.
اليسار الاشتراكي.. ساندرز واتباعه
قبل عام 2016 لم يكن هناك سوى تمثيل هامشي لمنظمة الاشتراكيين الديمقراطيين DSA، والتي تأسست عام 1982 لترويج الاشتراكية ودفع الحزب الديمقراطي نحو اليسار. في 2016 أحيا السيناتور بيرني ساندرز التيار الاشتراكي بقيادة حملة رئاسية كبرى لفترة لم يسبق لها مثيل منذ أيام يوجين ديبس، وفق أستاذ العلوم السياسية ريتشارد جروبر.
كان ديبس قد ترشح للرئاسة خمس مرات، وكان آخرها في 1920 من زنزانته، بعد مشاركته في إضراب ضد خفض الأجور في إحدى الشركات. وبداية القرن العشرين بدا أن الاشتراكيين قادرون على منافسة الجمهوريين والديمقراطيين، لكن موجة الخوف من المد الشيوعي وتداعياتها أضرت بهم وأضعفت وجودهم. وبحلول التسعينيات كان اليسار تائهاً، فاندفع بعض أعضائه نحو الديمقراطيين وتشبث آخرون بحزب الخضر، بينما تبنى الخضر برنامجه نفسه لكن مع وضع القضايا البيئية في صلبه. وتبنى ساندرز خطاباً مختلفاً رغم أنه ليس عضواً في DSA، إذ يعُرّف نفسه كـ”مستقل” لكنه يقود حركة الاشتراكيين الديمقراطيين بذخيرة من الدعم والشرعية التي منحها إياها جمهوره.
ينتمي جزء كبير من اليسار داخل الحزب الديمقراطي إلى DSA، ومن رموزه المرشح الديمقراطي لرئاسة بلدية نيويورك زهران ممداني والنائبة ألكساندريا أوكاسيو- كورتيز ورشيدة طليب، وجميعهم أعضاء في الحزب الديمقراطي. يقول باركان إن هؤلاء الديمقراطيون لا يمانعون في وصف أنفسهم بالاشتراكيين، إلى جانب ساندرز الذي يحظى بدعمهم رغم أنه ليس عضواً في DSA. وتضم المنظمة اليوم ما يزيد على 85 ألف عضو في الولايات، ويتوقع أن يتخطى العدد مئة ألف قريبا. إضافة إلى الاشتراكي الديمقراطي، يوجد في اليسار تنظيمات أصغر مثل Socialist Alternative وPSL، لكنها أقل تأثيراً، غير أن نفوذ حركة الاشتراكيين الديمقراطيين يمتد إلى الساحة السياسية ويمكنها دعم ودفع مرشحين للفوز في الانتخابات المحلية والكونجرس.
تنظيم الاشتراكيين الديمقراطيين.. ممداني ورفاقه
ينتمي جزء كبير من اليسار داخل الحزب الديمقراطي إلى DSA، ومن رموزها زهران ممداني النائب الديمقراطي عن نيويورك، وألكساندريا أوكاسيو-كورتيز وروشيدة طليب. يرى باركان أن هؤلاء الديمقراطيون لا يمانعون في وصف أنفسهم بالاشتراكيين، إضافة إلى ساندرز الذي يحظى بدعمهم وإن لم يكن عضواً في DSA. وتضم المنظمة اليوم أكثر من 85 ألف عضو وتوقّع أن يتجاوز العدد قريباً. بجانب DSA توجد مجموعات أصغر كـ Socialist Alternative و PSL، لكنها أقل تأثيراً، إلا أن نفوذ DSA متصل بمقاعد في الكونغرس ودوائر محلية عبر دعمها لمرشحين.
الحزب الديمقراطي بين تيارات اليسار
شهد الحزب الديمقراطي تحوّلاً أيديولوجياً نحو اليسار. وبحسب بيانات جالوب، انخفضت نسبة المعتدلين في الحزب من 48% إلى 35% خلال ربع قرن منذ ولاية بيل كلينتون، بينما تضاعفت نسبة اليسار من 25% إلى 51%. وفي 2020 كان اليسار تياراً صاعداً بشكل واضح داخل الحزب. يرى أستاذ التاريخ السياسي دونالد نيمان أن هناك كتلة تقدمية داخل الكونغرس تجمع 94 من أصل 212 ديمقراطياً في مجلس النواب، وتعد قوية لكنها ليست الأغلبية. في المقابل يرى روبرت باتيلو أن الولايات تتجه نحو مرحلة سياسية فاصلة وأن جيل Z وجيل Alpha يميلان إلى اليسار، وأن الحزب لن يكون له مستقبل دون قيادة يسارية.
وتتفق ملفات اليسار الثلاثة في القضايا الاجتماعية لكنها تختلف في القضايا الاقتصادية. فالقصد عند اليسار الاشتراكي هو تجاوز الرأسمالية نحو نظام أكثر مساواة يعتمد على الملكية العامة ونقابات أقوى ورعاية صحية شاملة وتعليم جامعي مجاني وإلغاء ديون الطلاب وإلغاء تمويل الشرطة وإعادة توزيع الثروة لصالح العمال والفقراء مع حماية البيئة ومناهضة الإمبريالية. بينما يسعى اليسار الليبرالي لإصلاح النظام القائم مع دعم خيار عام في الرعاية الصحية ومراقبة السوق وفرض ضوابط تنظيمية، مع الحفاظ في الغالب على العلاقات الدولية التقليدية ودعم وجود قواعد عسكرية أميركية في الخارج. يركز الليبراليون على الحريات المدنية والسياسية وتوسيع الحقوق المدنية والاقتصادية مع الحفاظ على دور للسوق كآلية تخصيص الموارد، مع وجود حاجة إلى تنظيمات أقوى لحماية المستهلك والبيئة والعمال.
ملفات اليسار الاشتراكي
يتفق اليسار الاشتراكي والليبرالي والمعتدل في القضايا الاجتماعية على تقارب في المواقف، لكنهم يختلفون في الاقتصاد. اليسار الاشتراكي يدعو إلى نظام اقتصادي بديل يعزز الملكية العامة للنشاط الاقتصادي وتوسيع دور الدولة في الخدمات الأساسية وتوزيع الثروة لصالح العمال والفقراء، مع شأن في تحمل أعباء البيئة وتدابير مناهضة للإمبريالية وتخفيض وجود القوات الأميركية خارج الحدود.
اليسار الليبرالي.. إليزابيث وارين
تميل إليزابيث وارن، كأحد أبرز رموز اليسار الليبرالي، إلى إصلاح النظام الاقتصادي القائم بدلاً من تفكيكه العلني، وتعرف نفسها بأنها “رأسمالية حتى النخاع” وليست اشتراكية. نافست بايدن وساندرز في الانتخابات التمهيدية وتبنّت جزءاً من برنامج ساندرز للاعتماد على رعاية صحية شاملة، لكنها فضّلت نهجاً تدريجياً. يرى باركان أن اليسار الليبرالي يسعى لإصلاح النظام مع الحفاظ على الرأسمالية، ويستند في تحالفاته إلى طبقة مهنيّة متعلمة وليست حركة عمالية جماهيرية، وهو أقوى في الإعلام الليبرالي لكنه يفتقد القوة التنظيمية التي تمتلكها الاشتراكية. كما يلاحظ أن وسائل الإعلام الكبرى أقرب إلى الليبراليين، بينما الإعلام الاشتراكي محدود المستوى إلى حد بعيد.
مع بداية حملة 2020، كانت وارن خياراً مثالياً للجاكوبينين، إذ أبدت تقبّلاً لمعظم برنامج ساندرز لكنها تبنت خياراً إصلاحياً تدريجياً، وهو ما يعكس الفروق داخل اليسار من حيث الرؤية والطريق السياسي. يتشارك اليسار الليبرالي مع الاشتراكي في دعوة الرعاية الصحية الشاملة، لكنهما يختلفان في مدى تقبل الرأسمالية ونطاق تدخل الحكومة في الاقتصاد.
تأثير التيار الليبرالي على الحزب الديمقراطي
يختلف اليسار الليبرالي عن الاشتراكي في قاعدة الانتخاب، فبينما يعتمد اليسار الليبرالي على طبقة مهنية متعلمة وموظفين مؤسساتيين، فإن الاشتراكي يعتمد قوة عمالية جماهيرية. ويشير باركان إلى أن النخبة المهنية في الليبرالية تساهم في تبني خطاب تقدّمي من قاعة الحكم، لكنها لا تملك القوة التنظيمية التي تمتلكها الحركات الاشتراكية. ويؤدي هذا إلى شعور جزء من العمال والفقراء بالاغتراب عن خطاب اليسار الليبرالي، مما يؤثر في ولاء القاعدة الانتخابية ويؤثر في استعادة الديمقراطيين لقاعدتهم الشعبية في الانتخابات.
اليسار الليبرالي و”العائلات العاملة”
لا يعمل اليسار الليبرالي من خلال كيان حزبي محدد، بل عبر منظمات غير ربحية وكثير من الحركات المناهضة لترمب، منها Indivisible ومجموعات المناخ والضغط من أجل قضايا اجتماعية، وهو ما ينعكس في تواجد حزب “العائلات العاملة” WFP في نيويورك منذ التسعينيات، لضغط الديمقراطيين على تبني توجهات يسارية. خلال حملة 2020 أيد حزب العائلات العاملة إليزابيث وارن، ما أثار غضب أنصار ساندرز التي دعمت ساندرز في 2016. ويرى باركان أن حاكم نيويورك الأسبق أندرو كومو كان وسطياً ومعادياً لـ”العائلات العاملة”، فدفع النِقابات العمالية إلى الانسحاب من دعمه، وهو ما جعل الديمقراطيين يتجهون إلى تبني خطاب يساري بشكل أوضح في السنوات التالية.
اليسار المعتدل والتحالفات الضرورية
يظهر اليسار المعتدل داخل الحزب الديمقراطي كفصيل أقرب إلى الوسط، مؤيد للأسواق والاقتصاد التقليدي لكنه لا يعترض على بعض الإنفاق الاجتماعي إذا صيغ بشكل مقنع، وهو يدعم مؤسسات الديمقراطية ويدافع عن الأمن القومي بطرق تقليدية. يضم هذا التيار شخصيات مثل حكيم جيفريز وأعضاء دوائر انتخابية محافظة، وهو أقرب إلى الوسط من النخبة السياسية، وهو ما يعزز إمكانية بناء تحالفات مع تيارات يسارية أكثر راديكالية عندما يتطلب الأمر إنجاز مقترحات كبيرة.
ومع ذلك، يوافق المعتدلون أحياناً على عقد صفقات مع اليسار الليبرالي والاشتراكي إذا تدعته الحاجة. وفي أواخر يونيو الماضي، فاز المرشح الاشتراكي زهران ممداني في انتخابات التمهيد للمجلس البلدي في نيويورك، وتصدر السباق بفارق كبير، وهو ما دفع حاكمة نيويورك الوسطية كاثي هوكول إلى دعم ممداني. وتختلف هوكول مع ممداني في بعض القضايا مثل الضرائب والإنفاق على الشرطة، لكنها تدرك أن دعماً تقدميًا أقوى قد يعزز فرصها في إعادة الانتخاب. لا تزال قيادتا مجلس الشيوخ ومجلس النواب الديمقراطيتان لم تعلنا بعد تأييدهما لممداني بشكل رسمي، وهو ما يعكس توازن القوى وتخطيط الاستراتيجيات للفصائل المختلفة داخل الحزب.
الفصيل الذي يستهدفه ترمب
عندما ألقى ترمب اللوم على ما سماه “اليسار المتطرف” في العنف السياسي، اتفق المراقبون على أن رسالته تستهدف الديمقراطيين ككتلة سياسية، لا فصيلة محددة بعينها. يرى ريتشارد جروبر أن الحزب الديمقراطي هو التيار اليساري الأميركي المنافس للجمهوريين وهو هدف أولي لترمب قبل الانتخابات النصفية 2026. ويشاركه الرأي روبرت باتيلو الذي يقول بأن الحزب في مسار تغيّر تاريخي وأن جيلَي Z وAlpha يميلان بوضوح إلى اليسار، ما يجعل القيادة اليسارية جزءاً حتمياً من مستقبل الحزب. أما سكوت أولنجر فاعتبر أن الحزب الديمقراطي تغيّر خلال نحو عشرين عاماً ليصبح أكثر تطرفاً، متهماً الحزب بأنه أصبح أقرب إلى اليسار الشديد ويدفع نحو العنف في بعض خطاباته.