اخبار دوليةاخبار سياسيةمقالات

تصويبٌ للقراءة المغلوطة لتقرير CNN عن أصول المصريين القدماء

عن الجينات والحضارات

في سياق الدراسات المعاصرة التي تسعى إلى إعادة بناء التاريخ البشري من خلال التحليل الجيني، تبرز إشكالية منهجية وفكرية تتعلق بحدود هذا التوجّه العلمي، ومدى قدرته على تقديم صورة شاملة وعادلة للحضارات الإنسانية. فالموقف النقدي المتوازن يحذر من المبالغة في تفسير المعطى الجيني بمعزل عن الإطار الحضاري والثقافي الأوسع.
فعندما تستند دراسة ما إلى عينة واحدة أو عدد محدود من الأفراد، تبقى نتائجها تفسيراً جزئياً لا يمكن تعميمه. فالسياقات الجينية معقدة، وتتداخل فيها عوامل عرقية وجغرافية وزمنية لا يمكن حصرها في جينوم فردي.
ومن هنا، تبرز ضرورة التحلي بالحذر المنهجي، وتجنب التعامل مع العينة الجينية باعتبارها دليلاً قاطعاً على أصول شعب بأكمله، خاصة إذا لم تُدعَّم بعينات متعددة وتُفَسر ضمن سياقها التاريخي.
وقد طُرحت هذه الإشكالية بوضوح عقب نشر شبكة CNN تقريراً علمياً في أوائل يوليو 2025، حول أول تسلسل جيني مكتمل لإنسان من مصر القديمة. وقد سارع البعض حينها إلى إطلاق خلاصات متسرعة ومضللة، من أبرزها الادعاء بأن “أصل المصريين القدماء من بلاد الرافدين”، مستندين إلى نتيجة مفادها أن 20٪ من المادة الوراثية للعينة تعود إلى غرب آسيا.
غير أن هذه القراءة المغلوطة، تجاهلت عمداً أو جهلاً، السياق العلمي الكامل للدراسة. فالدراسة ذاتها، كما نُشرت في مجلة Nature، أوضحت أن 80% من المكوّن الجيني للعينة تعود إلى سكان شمال إفريقيا القدماء، وهو التصنيف الذي يندرج فيه المصريون جغرافياً وتاريخياً، كون مصر تقع ضمن هذه الرقعة الحيوية الممتدة إنسانياً وثقافياً عبر آلاف السنين.
أما نسبة الـ 20%، فهي ببساطة تمثل تداخلاً بشرياً طبيعياً وتاريخياً مع بلاد الرافدين وغرب آسيا، وهو أمر لا يفاجئ الباحثين، نظراً لوجود تواصل حضاري وتجاري وثقافي بين مصر والهلال الخصيب منذ آلاف السنين.
لكن أن يُسلَّط الضوء على هذه النسبة الأقل، ويتم تجاهل الأغلبية الجينية، فذلك إما قراءة منحازة أو تلاعب إعلامي. وهو ما يفرض التذكير بعدم الخلط بين الوراثي والحضاري.
حتى لو وُجدت أصول جينية وافدة، فإنها لا تعني انتقالاً تلقائياً للهوية أو الثقافة.
فالفرد الذي يحمل جينات بنسبة عشرين في المائة من بلاد الرافدين قد يكون قد نشأ وتكوّن ثقافياً وفكرياً في مصر، مُتشرّباً لغتها ومعتقداتها وموروثها الحضاري.
فهل من المنطقي بناء سردية عن “أصل شعب” استناداً إلى أقلية جينية في عينة واحدة؟ وهل يجوز اختزال حضارة عظيمة كالحضارة المصرية، الممتدة عبر آلاف السنين، في مجرد تحليل جيني واحد؟
الجواب بوضوح: قطعًا لا. فالعينة الوحيدة لا تصلح أن تكون مرآة لأمةٍ بكاملها.
ويجدر التذكير بأن هذه العينة تعود لرجل عاش في وادي النيل قبل نحو 4500 – 4800 عام، ودُفن في وعاء فخاري بقرية نُويرات جنوب القاهرة. ورغم أنها محفوظة بشكل نادر، فإن تعميم نتائجها على ملايين المصريين عبر آلاف السنين هو تسرع علمي وتهويل إعلامي.
فمصر القديمة، كغيرها من الحضارات الكبرى، عرفت تنوعاً سكانياً وامتزاجاً ثقافياً واسعاً، وتغيّرت تكويناتها عبر العصور. وبالتالي، لا يمكن لعينة واحدة أن تختصر هذا التنوع، أو أن تعكس ما يُسمى “الأصل الجيني لشعب أو حضارة”.
إن اختزال الحضارة المصرية في أصول جينية وافدة، يتجاهل أن الحضارات تُبنى بالثقافة واللغة والرمز والإبداع، لا بالمادة الوراثية وحدها. فالحضارة المصرية ليست مسألة نسب بيولوجي، بل ثمرة تراكم طويل لهوية ثقافية نشأت من التفاعل مع الأرض، والنيل، والعقيدة، والفكر، واللغة.
أما جينات أولئك الذين شيّدوا الأهرامات، وكتبوا بالهيروغليفية، ورسموا على جدران المعابد، وصاغوا الذهب، وأبدعوا في الكيمياء والطب والهندسة والجغرافيا والفلك، فهي لا تُفهم إلا في سياق مصري صرف، حتى وإن حمل فردا منهم أصولاً جينية متنوعة.
إن ما نحتاجه اليوم، في زمن وفرة الاكتشافات العلمية، هو القراءة النقدية الرصينة التي تُعيد المعطى العلمي إلى سياقه، دون تهويل أو اختزال.
كما نحتاج إلى التذكير بأن الهوية لا تُختزل في الجينات، بل تُبنى على اللغة، والوعي، والذاكرة، والانتماء المشترك.
وبينما نرحب بكل ما يقدّمه العلم، يجب أن نكون حذرين من محاولات تسييس نتائجه أو توظيفها لإعادة تشكيل السرديات التاريخية بما يخدم أفكاراً إيديولوجية أو عنصرية.
والسؤال الجوهري في هذا السياق هو: هل تُحدّد الجينات هوية الحضارات؟
قد يبدو الربط بين النسب الجيني والانتماء الثقافي مغرياً، لكنّه في جوهره خلط خطير بين ما هو بيولوجي وما هو حضاري.
فوجود 20٪ من المادة الوراثية التي تعود لبلاد الرافدين لا يعني أن صاحب العينة كان “رافديًا” بالوعي أو الهوية.
فالحضارات تُبنى على اللغة، والدين، والفنون، والخيال الجمعي، لا على الشيفرات الجينية.
واختزالها في أرقام وراثية يُفرغها من رمزيتها الثقافية وثرائها التاريخي.
لذلك، فإن معرفة السياق التاريخي والثقافي أولاً، أمر لا غنى عنه.
فلا يكفي لفهم حضارة ما أن نفحص العظام والأسنان، بل يجب أن نعود إلى الجداريات، والنصوص والعلوم، والعمارة، والفلكلور، والأساطير، وأنظمة الحكم، والممارسات اليومية.
تجاهل هذه الأبعاد يُشبه محاولة قراءة رواية من خلال تحليل نوع الورق فقط.
ومن هنا، لا يمكن إغفال المخاطر التي قد تترتب على تسييس العلم أو تزييف نتائجه.
فالتلاعب بنتائج من هذا النوع قد يُستخدم لتبرير “نقاء سلالة” أو لنفي “أصالة شعب”، وهو ما يحوّل العلم من أداة للفهم إلى أداة للتقسيم، ويُناقض جوهر البحث العلمي.
نعم، تسلسل الجينوم خطوة مهمة، لكن الجين لا يكتب التاريخ.
التاريخ تصنعه الشعوب، بأحلامها، وكفاحها، وفنونها، وذاكرتها الجمعية.
وإذا كنّا نحتفي بالاكتشاف، فإن الواجب الثقافي يفرض علينا ألا نسمح باختزال تاريخ مصر العظيم في عينة جينية واحدة، وذلك مع الاحترام الكامل والتقدير الكبير لحضارة بلاد الرافدين القديمة.
فالحضارة المصرية ليست ماضٍ بيولوجي، بل مشروع إنساني ممتد تشكّل عبر آلاف السنين من نسيج لغوي، ديني، وفكري لا تلتقطه أدوات المختبر.
ومن هذه القضية نستخلص درساً بالغ الأهمية، وهو التحقق، ثم التحقق، ثم التأكد من صحة المعلومة قبل تصديقها أو نشرها أو حتى التفاعل معها.
فما انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي تحت عنوان “أصول المصريين القدماء من بلاد الرافدين”، نُشر من صفحات غير موثوقة، دون ترجمة للمقال الأصلي، ولا حتى إشارة إلى مصدره، لأن الهدف لم يكن نقل الحقيقة، بل تشويهها.
و هنا حتى لا نقع في الفخ نفسه، إليكم رابط المقال الأصلي من CNN للتحقق من المصدر الكامل:
https://amp.cnn.com/cnn/2025/07/02/science/ancient-egyptian-genome-sequenced

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى